فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (8- 9):

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)}
قلت: {وصى} حُكمه حُكْمُ أَمَرَ، يقال وصيت زيداً بان يفعل خيراً، كما تقول: أمرته بأن يفعل خيراً، ومنه: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132]، أي: أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها.
يقول الحق جل جلاله: {ووصينا الإنسانَ بوالديه}؛ أمرناه بإيتاء والديه {حُسْناً} أي: فعلاً ذا حُسْنٍ، أو: ما هو في ذاته حُسن، لفرط حسنه، كقوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] أو: وصينا الإنسان بتعاهد والديه، وقلنا له: أحسن بهما حسناً، أو أوْلِهِمَا حُسْناً. {وإِن جاهداك} أي: حملاك بالمجاهدة والجد {لتُشرك بي ما ليس لك به علم} أي: لا علم لك بالإلهية، والمراد نَفْيُ العلم نَفْيُ المعلوم، وكأنه قيل: لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً، وقيل: ما ليس لك به حجة؛ لأنها طريق العلم، فهو قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117]، بل هو باطل عقلاً ونقلاً، {فلا تُطعمها} في ذلك؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
{إليّ مرجعُكُم}، من آمن منكم ومن أشرك، {فأُنبئُكم بما كنتم تعملون}؛ فأُجازيكم حق جزائكم. وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الدين. رُوي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].
{والذين آمنوا}؛ ثبتوا على الإيمان {وعملوا الصالحات لنُدخِلنّهم في الصالحين} أي: في جملتهم، والصلاح مِن أبلغ صفة المؤمنين، وهو متمني الأنبياء، فقال سليمان عليه السلام: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19]. وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101] أو: في مدخل الصالحين، وهو الجنة.
الإشارة: قد وصى الله تعالى بطاعة الوالدين في كل شيء، إلا في شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلي والخفي، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدَهما من صحبته، ليتطهر من شركه، فلا يُطعمها، وسيأتي في لقمان دليل ذلك، إن شاء الله. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (10- 11):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}
يقول الحق جل جلاله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله}، فيدخل في جملة المسلمين، {فإِذا أُوذي في الله} أي: مسّه أذىً من الكفرة؛ بأن عذبوه على الإيمان، {جعل فتنةَ الناسِ كعذابِ الله} أي: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، فَيُصْرَفْ عن الإيمان، {ولئن جاء نصرٌ من ربك}؛ فتح أو غنيمة، {ليقولن إنا كنا معكم} أي: متابعين لكم في دينكم، ثابتين عليه بثباتكم، فأعطونا نصيباً من المغنم. والمراد بهم: المنافقون، أو: قوم ضعف إيمانهم فارتدوا. قال تعالى: {أَوَلَيس الله بأعلمَ بما في صدور العالمين} أي: هو أعلم بما في صدور العالمين. ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق، وما في صدور المؤمنين. من الإخلاص.
الإشارة: منافق أهل الإيمان هو الذي يظهر الإيمان في الرخاء ويرجع عنه في الشدة، ومنافق الصوفية هو الذي يظهر الانتساب في السعة والجمال، فإذا وقع البلاء والاختبار بأهل النسبة خرج عنهم، فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بالقطيعة والحجاب، ولئن جاء لأهل النسبة نصر وعز، ليقولن: إنا كنا معكم. وقد رأينا كثيراً من هذا النوع، دخلوا في طريق القوم، فلما قابلتهم نيران التعرف والامتحان؛ رجعوا القهقرى، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان، وعند الحَمْلَةِ يتميز الجبان من الشجاع.
قال القشيري: المحن تُظْهِرُ جواهرَ الرجال، وتَدُلُّ على قيمتهم وأقدارهم. ثم من كانت محنته من فوات الدنيا، أو نقص نصيبه فيها، أو بموت قريب أو فَقْد حبيب، فحقيرٌ قدره، وكثيرٌ في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله، فعظيم قدره، وقليل مثله، في العدد قليل، ولكن في القدر والخطر جليل. اهـ. قلت: معنى كلامه: أن العامة يمتحنهم الله ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم، فإن جزعوا فقدرهم حقير، وإن صبروا فأجرهم كبير، وأما الخاصة فيمتحنهم الله بسبب نسبتهم إلى الله، وإقبالهم عليه، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فَيُؤْذَوْنَ في جانب الله، فمنهم من يُسجن، ومنهم من يُضرب، ومنهم من يُجلى من بلده، فهؤلاء قدرهم عند الله كبير. ثم قال: والمؤمن مَنْ يكفُّ الأذى، والولي من يتحمل من الناس الأذى، من غير شكوى، ولا إظهار دعوى. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}
يقول الحق جل جلاله: {وقال الذين كفروا} من صناديد قريش، {للذين آمنوا اتَّبِِعُوا سبيلَنَا} الذي نسلكه، وهو الدخول في ديننا، {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} إن كان ذلك خطيئة في زعمكم. أمروهم باتباع سبيلهم، وهي طريقتهم التي كانوا عليها، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، أي: إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم. وهذا قول صناديد قريش، كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نُبعث نحن ولا أنتم، فإن كان ذلك فإنا نحمل عنكم الإثم.
قال تعالى: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيءٍ} أي: ما هم حاملين شيئاً من أوزارهم، {إنهم لكاذبون} فيما ادعوا؛ لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يَعِدُون الشيء وفي قلوبهم نية الخُلْف. {وليَحْمِلُنَّ أثقالهم} أي: أثقال أنفسهم بسبب كفرهم، {وأثقالاً مع أثقالهم} أي: أثقالاً أُخر غير التي ضمنوا للمؤمنين حملَها، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم، كقولهم: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، {وَلَيُسْأَلُنَّ يوم القيامة عما كانوا يفترون} من الأكاذيب والأباطيل التي ضلوا بها.
الإشارة: كل من عاق الناس عن الدخول في طريق التصفية والتخليص: تَصْدُقُ عليه هذه الآية، فيتقلد بحمل نقائصهم ومساوئهم التي بقيت فيهم، فيحاسب عليها وعلى مساوئ نفسه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)}
يقول الحق جل جلاله: {و} الله {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلَبِثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً} يدعوهم إلى الله، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نُصر، فاصبر كما صبر، فإن العاقبة للمتقين.
رُوي أنه عاش ألفاً وخمسين سنة وقيل: إنه ولد في حياة آدم وآدم يومئذٍ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً. وقيل: إلا أربعين. ذكره الفاسي في الحاشية. والمشهور: أن بينه وبين آدام نحو العشرة آباء. وروي أنه بُعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين. وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وَهْبٍ أنه عاش في عمره ألفاً وأربعمائة، وقيل: وستمائة، فقال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمراً؛ كيف وجدت الدنيا؟ قال: كَدَارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولم يقل: تسعمائة وخمسين سنة، لأنه، لو قيل ذلك، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل هنا، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد. مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظاً، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته، وما كابده من طول المصابرة؛ تسليةً لنبينا- عليه الصلاة والسلام- فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وَجِيءَ، أولاً: بالسّنةِ ثم بالعام؛ لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة.
{فأخذهم الطوفانُ}؛ طوفان الماء، وهو ما طاف وأحاط، بكثرة وغلبة، من سيل، أو ظلام ليلٍ، أو نحوها، {وهم ظالمون} أنفسهم بالكفر والشرك، {فأنجيناه وأصحابَ السفينة}، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً، نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، أولاد نوح: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم، ومَنْ آمَنَ مِنْ غَيْرِهِمْ، {وجعلناها} أي: السفينة، أو الحادثة، أو القصة، {آيةً}؛ عبرة وعظة {للعالَمين} يتعظون بها.
الإشارة: كل ما سُلى به الأنبياء يُسَلّى بِهِ الأولياء، فكل من أُوذي في الله، او لحقته شدة من شدائد الزمان، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر، ويتسلى بهم، ولينظر إلى لطف الله وبره وإحسانه، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: العارف هو الذي يغرق إساءته في إحسان الله إليه، ويغرق شداد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه؛ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.

.تفسير الآيات (16- 18):

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}
قلت: {إبراهيم}: عطف على (نوح)، أو متعلق باذكر، و{وإذ قال}: ظرف زمان لأرسلنا، أو: بدل اشتمال من {إبراهيم}؛ إِنْ نُصِبَ باذكر، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها.
يقول الحق جل جلاله: {وإِبراهيمَ} أي: وأرسلنا إبراهيم {إذ قال لقومه} أي: أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره، وبلغ من السن والعلم مبلغاً صَلَحَ فيه لأن يعظ قَوْمَهُ، وَيَأَمُرَهُمْ بالعبادة والتقوى. وقرأ النخعي وأبو حنيفة: بالرفع. أي: ومن المرسلين إبراهيم، قال في وعظه: {اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم} مما أنتم عليه من الكفر، {إن كنتم تعلمون}؛ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم.
{إنما تعبدون من دون الله أوثاناً}؛ أصناماً {وتخلُقُون}: تختلفون وتكذبون، أو تصنعون أصناماً بأيديكم تسمونها آلهة. وقرأ أبو حنيفة والسُّلَمِي: {وَتُخَلِّقُونَ} بالكسر والشد. من خَلَّقَ؛ للمبالغة. {إفكاً}: وقرئ {أَفِكاً} بفتح الهمزة، وهو مصدر، نحو كذب ولعب. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله.
{إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً}: لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، {فابتغوا عند الله الرزقَ} كُلَّه؛ فإنه هو الرزاق وحده، لا يرزق غَيْرُهُ. {واعبدوه واشكروا له} أي: متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره {إليه تُرجعون} فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، {وإِن تُكذِّبوا} أي: تكذبوني {فقد كَذَّبَ أُمَمٌ من قبلكم} رُسُلَهم، {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} الذي يزول معه الشك. والمعنى: وأن تكذبوني فلا تضرونني بتكذيبكم؛ فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم العذابُ. وأما الرسول فقد أدى ما عليه حين بلغَ البلاغَ المبين، الذي لم يبق معه شك، حيث اقترن بآيات الله معجزاته. أو: وإن كنت مُكَذِّباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة حيث كُذَّبُوا وعلى الرسول أن يُبَلِّغَ، وما عليه أن يصدَّق ولايكذّب.
وهذه الآية من قوله: {وإِن تُكذِّبوا} إلى قوله: {فما كان جواب قومه}: يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمراد بالأمم قبله: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وأن تكون من كلام الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشأن قريش، مُعْتَرِضَةً بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: الجمل الاعتراضية لابد لها من اتصال بما وقعت؛ معترضة فيه؛ فلا تقول: مكة، وزيد قائم، خير بلاد الله؟ قلت: قد وقع الاتصال، وبيانه: أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباهُ إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلى به؛ من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: {وإِن تُكذِّبوا} يا معشر قريش محمداً، فقد كذب إبراهيمَ قومُه، وكل أمة كذبت نبيها لأن قوله: {فقد كذّب أمم مِن قبلكم} لابد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض متصل، ثم سائر الأيات بعدها من توابعها؛ لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك، وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضح صحته وبرهانه.
قاله النسفي.
قال ابن جزي: {وإن تُكذِّبوا} يحتمل ان يكون وعيداً للكفار وتهديداً لهم، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه، بالتأسي بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومُهم. اهـ.
الإشارة: قوله تعالى: {فابتغوا عند الله الرزق}؛ قال سهل رضي الله عنه: معناه: اطلبوا الرزق في التوكل، لا في الكسب؛ فإن طلب بالكسب سبيل العوام. وقال ابن عطاء الله: اطلبوا الرزق في الطاعة والإقبال على العبادة. وقال القشيري: وقدَّم ابتغاء الرزق؛ لتوقف القيام بالعبادة عليه، ثم أمر بالشكر على الكفاية. اهـ.

.تفسير الآيات (19- 23):

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}
قلت: يقال: بدأ الله الخلق، وأبداه: بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة. وقوله: {يُعيده}: عطف على الجلمة، لا على {يبدئ}؛ لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة، فإنها تُعْلَمُ بالنظر والاستدلال، وهم لا يقرونها، لعدم النظر. وقد قيل: إنه يريد إعادة النبات وإبداءه، وعلى هذا تكون {ثم يعيده}: عطفاً على {يبدئ}.
يقول الحق جل جلاله: {أَوَلَم يروا} أي: كفار قريش {كيف يُبدئُ اللهُ الخلقَ} أي: يظهره من العدم، أي: قد رأوا ذلك وعلموه، {ثم يُعيده} بالبعث؛ للجزاء بالعذاب والثواب.
قال القشيري: الذي دَاخَلَهم في الشكُّ هو بعث الخلَق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها، وإعادتها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وكما أن ذلك سائغٌ في قدرته، كذلك بُعث الخلق. اهـ. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود في الثمار، من كونها تبدأ، فتجنى، ثم تفنى، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً آخر، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف يعيد على يبدئ. {إن ذلك على الله يسيرٌ} أي: الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى.
{قُلْ سيروا في الأرض} أي: قل يا محمد، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره: وأوحينا إليه أن قل: سيروا في الأرض، {فانظروا كيف بدأَ الخلقَ} على كثرتهم، واختلافْ أحوالهم والسنتهم وألوانهم وطبائعهم، تفاوت هيئاتهم، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة، ويقوي إيمانكم بالبعث، وهو قوله: {ثم الله ينشئُ النشأةَ الآخرةَ} أي: البعث، وهذا دليل على أنهما نشأتان: نشأة الاختراع ونشأة الإعادة، غير إن الآخرة إنشاء بعد إنشاء، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة، وإنما عدل عنه؛ لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء، بإنه من الله، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة فكأنه قال: ثم ذلك الذي أنشأ الأولى هو الذي يُنشئ النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قال النسفي.
{إن الله على كل شيءٍ قديرٌ}؛ فلا يعجزه شيء. {يُعذِّب من يشاء} بعدله {ويرحم من يشاء} بفضله، أو: يُعذب من يشاء بالخذلان، ويرحم بالهداية للإيمان، أو: يُعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة، أو: يُعذب بالتدبير والاختيار ويرحم بالرضا والتسليم لمجاري الأقدار، أو: يُعذب بالإعراض عنه، ويرحم بالإقبال عليه، أو: بالاستتار والتجلي، أو: بالقبض والبسط، أو بالمجاهدة والمشاهدة، إلى غير ذلك. {وإليه تقلبون}؛ تُردون للحساب والعقاب.
{وما أنتم بمعجزين} أي: بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه، {في الأرض} الفسيحة، {ولا في السماء} التي هي أفسح منها وأبسط، لو كنتم فيها.
{وما لكم من دون الله من وليٍّ} يتولى أموركم، {ولا نصير}؛ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. {والذين كفروا بآيات الله}؛ بدلائله على وحدانيته، أو كتبه، أو معجزاته، {ولقائه}؛ وكفروا بلقائه، {أولئك يئِسُوا من رحمتي}؛ جنتي، {وأولئك لهم عذابٌ أليم} موجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: أَوَلَمْ ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقُّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم يبطنها، فيردها لأصلها من اللطافة، ثم ينشأها النشأة الثانية، تكون معانيها أظهر من حسها، وقدرتُها أظهر من حكمتها، فليس عند أهل التوحيد الخاص شيء يفنى، وإنما يُبطن ما ظهر، ويُظهر ما بطن، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال، وهو لُب العلم، وخالصة طريقة ذكر الله، والتفرغ عن كل شيء ما يشغل عن الله، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس. وبالله التوفيق.